كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: وكنت متكئًا فجلست فقلت: يا أُم المؤمنين، أنظريني ولا تعجلي، أرأيت قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} [التكوير: 23]. قالت: إنّما هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة حين هبط من السماء إلى الأرض سادًّا أعظم حلقة ما بين السماء إلى الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. قالت: وأنا أوّل من سأل النبي عن هذه الآية فقال: «هو جبريل».
{عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} (عند) صلة من قوله: {رَآهُ} والسدرة: شجرة النبق، وقيل لها سدرة المنتهى؛ لأنه إليها ينتهي علم كل عالم.
وقال هلال بن سياف: سأل ابن عباس كعبًا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلاّ الله سبحانه.
وقال ابن مسعود: سمّيت بذلك؛ لأنّه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله سبحانه وتعالى إذا انتهى من يصعد إليها من الأرض قبض منها، وقيل: لأنّه ينتهي إليها ما عرج من أرواح المؤمنين، وقيل: لأنّه ينتهي إليها كل من مات على سنّة رسول الله ومنهاجه.
روى الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: لمّا أُسري بالنبي انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن إلى قوله: مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلّها سبعين عامًا لا يقطعها، والورقة منها مغطّية الأُمة كلها.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا بن شيبة، قال: حدّثنا التنوخي قال: حدّثنا عبيد بن يعيش، قال: حدّثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قال:
سمعت النبي يذكر سدرة المنتهى قال: يسير الراكب في ظلّ الفنن منها مائة عام، ويستظلّ في الفنن منها مائة راكب. فيها فراش من ذهب، كأنّ ثمارها القلال.
وقال مقاتل: هي شجرة لو أنّ ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت لأهل الأرض، تحمل الحليّ والحلل والثمار من جميع الألوان، ولو أنّ رجلا ركب حقّةً فطاف على ساقها ما بلغ المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم، وهي طوى التي ذكرها الله سبحانه في سورة الرعد، وقد تقصيت وصفها في قصة المسرى.
{عِندَهَا جَنَّةُ المأوى إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} قال ابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال الحسن: غشيها نور ربّ العزة فاستنارت، وقيل: الملائكة، ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت على كلّ ورقة من ورقها ملكًا قائمًا يسبّح الله عزّ وجل.
وروى الربيع عن أبي هريرة أو غيره قال: لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة، قال: فغشيها نور الخلائق وغشيها الملائكة من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجر.
قال: فكلّمه عند ذلك وقال له: سل.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فغشيها رفرف من طير خضر».
قال السدي: من الطيور فوقها، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «انتهيت إلى السدرة وأنا لأعرف أنّها سدرة، أعرف ورقها وثمرها، وإذا ينعها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. فلمّا غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتًا وزمردًا حتى ما يستطيع أحد يصفها، عندها جنة المأوى».
قال ابن عباس: هي يمين العرش، وهي منزلة الشهداء، نظيره {فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى} [السجدة: 19] وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أبوعبد الله عمر بن أحمد بن محمد بن الحرث القضباني. قال: حدّثنا علي بن العباس المقانعي، قال: حدّثنا ميمون بن الأصبع، قال: حدّثنا يحيى بن صالح الوحاطي قال: حدّثنا محمد بن سليمان بن حمزة البصري، قال: حدّثنا عبد الله بن أبي قيس، قال سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ هذه الآية {عِندَهَا جَنَّةُ} بالهاء {المأوى} يعني جنّة المبيت، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: حدّثني أبو صدقة قال: حدّثنا أبو الأسباط قال: حدّثنا عبد الرَّحْمن عن علي بن القاسم الكندي عن موسى بن عبيدة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقرأ {جَنَّةُ المأوى} وقال مجاهد: يريد أجنّه، والهاء في هذه القراءة كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو حاتم: وهي قراءة علي وأنس يعني ستره، وقال الأخفش: أدركه.
{مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} أي: ما جاور ما أمر به، ولا مال عمّا قصد له.
{لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} أي الآية الكبرى.
قال ابن مسعود: رآى رفرفًا أخضر من الجنة قد سدّ الأُفق، وقال الضحاك: سدرة المنتهى، وقال عبدالرَّحْمن بن يزيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل في صورته التي تكون في السماوات، وقيل: المعراج، وما أُري تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه. دليله قوله سبحانه: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإسراء: 1].
{أَفَرَأَيْتُمُ اللات} قراءة العامة بتخفيف التاء، وهي من (الله) ألحقت بها التاء فاثبت. كما قيل: عمر للذكر، ثم قيل: للانثى عمرة، وكما قيل عباس وعباسة، وكذلك سمّى المشركون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله (اللات)، ومن العزيز (العزّى).
قال قتادة: أمّا اللات فكانت بالطائف. ابن زيد: اللات بيت بنخلة كانت قريش تعبده.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح {اللات} بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلتّ السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه، وروى السدي عن أبي صالح أنّه كان بالطائف، وكان يقوم على آلهتهم ويلتّ لهم السويق، فلمّا مات عبدوه.
وقال مجاهد: كان رجلا في رأس جبل له غنم يسلى منهالسمن، ويأخذ منها الأقط، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها (حيسًا) فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات، وقال الكلبي: كان رجلا من ثقيف يقال له: (صرمة) بن غنم كان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلتّ به سيوفهم، فلمّا مات الرجل (اخذت) ثقيف الصخرة الى منازلها فعبدتها فمدرة الطائف على وضع اللات.
{والعزى} اختلفوا فيها فقال مجاهد: هي شجرة لغطفان يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك

فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، ويقال: إن خالدًا رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد قطعتها، فقال: «ما رأيت؟»، قال: لم أر شيئًا، قال صلى الله عليه وسلم «ما قطعت». فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثّ أصلها، فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: «تلك العزى ولن تعبد أبدًا».
وقال الضحاك: وهي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنّه قدم مكة فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فعاد إلى (بطن نخلة) وقال لقومه: إنّ لأهل مكة الصفا والمروة وليست لكم، ولهم اله يعبدونه وليس لكم، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة فنقلهما إلى بطن نخلة، فوضع الذي من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذ من المروة، فقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة وقال: هذا رُبّكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين وعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله مكة فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعهما، وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف.
{وَمَنَاةَ} قرأ ابن كثير بالمد، ومثله روى الشموني عن أبي بكر عن عاصم وأنشد:
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة ** على الشنئ فيما بيننا ابن تميم

والباقون بالقصر.
قال قتادة: هي حجارة كانت تعبد. ابن زيد: بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب. الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة، وقيل: إن اشتقاقه من ناءَ النجم ينوء نوءًا، وقال بعضهم: اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة، فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء، وقال بعضهم: كل شيء في القرآن مكتوب بالتاء فإنه يوقف عليه بالتاء نحو {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الطور: 29] و{شَجَرَةُ الزقوم} [الصافات: 62] ونحوهما، وما كان منها مكتوبًا بالهاء فالوقف عليه بالهاء، وقال بعضهم: الاختيار في كل ما لم يضف ان يكون بالهاء، نحو {رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف: 98] و{شَجَرَةٌ تَخْرُجُ} وما كان مضافًا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للأضافة والهاء لأنه تفرد دون التاء.
وأما قوله سبحانه: {الثالثة الأخرى} قال: العرب لا تقول للثالثة أُخرى وأنّما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنّما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله: {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] ولم يقل: أُخَر، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الاخرى ومناة الثالثة، ومعنى الآية: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله.
{أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} روى القواس والبزي عن ابن كثير بالهمز. الباقون بغير همز، وقال ابن عباس وقتادة: يعني قسمة جائرة حيث جعلتم لربّكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم. مجاهد ومقاتل: عوجًا. الحسن: غير معتدلة. ابن سيرين: غير مستوية أن يكون لهم الذكور ولله الإناث. الضحاك: ناقصة. سفيان منقوصة. ابن زيد: مخالفة.
قال الكسائي: يقال فيه: ضاز يضيز ضيزًا. ضاز يضوز ضوزًا. ضاز يضاز ضأزًا إذا ظلم ونقص. قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم ** إذ يجعلون الرأس كالذَّنَبِ

وأنشد الأخفش:
فإن تَنأَ عنا ننتقصْك وإن تغبْ ** فسهمك مضئوز وأنفك راغم

وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء؛ لأنها صفة من الصفات، والصفات لا تكون إلاّ (فُعلى) بضم الفاء، نحو: حُبلى وأُنثى ويُسرى، أو (فَعلى) بفتح الفاء نحو: غَضبى وسَكرى وعَطشى، وليس في كلام العرب (فعِلى) بكسر الفاء في النعوت، إنّما يكون في الأسماء نحو: دفرى، وذكرى وشعرى.
قال المؤرخ: كرهوا ضم الضاد وخافوا انقلاب الياء واوًا وهو من بنات الياء فكسروا الضاد لهذه العلّة، كما قالوا في جمع أبيض: بيض، والأصل بوض مثل: حمر وصفر، وأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.
{إِنْ هِيَ} يعني هذه الأوثان {إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ} قرأ العامة بالياء، وقرأ عيسى بالتاء {إِلاَّ الظن} في قولهم: إنّها آلهة وإنّها شفعاؤهم {وَمَا تَهْوَى الأنفس وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} لبيان أنّها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاّ لله الواحد القهار.
{أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى} اشتهى، وهم الكفار وزعموا أن الأصنام تشفع لهم عند الله، يعني: أتظنون أنّ لهم ما يتمنون من شفاعة الأصنام، ليس كما ظنوا أو تمنوا، بل لله الآخرة والأُولى، يعني الدنيا، يعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء، لا ما تمنّى الانسان واشتهى، وهذا كقوله: {أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] أي لا إله مع الله، وقال ابن زيد: إنْ كان محمد تمنّى شيئًا فأعطاه الله ذلك فلا تنكروه.
{فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} يعطي من يشاء ما يشاء، ويحرم من يشاء ما يشاء.
{وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات} ممن يعبدونهم هؤلاء الكفار ويزعمون أنهم بنات الله ويرجون شفاعتهم عند الله.
{لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاءُ ويرضى} قال الاخفش: الملك موحّد ومعناه الجمع، وهو مثل قوله: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاءُ ويرضى}.
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ} أي كتسمية أو بتسمية {الأنثى} {وَمَا لَهُم} وذلك حين قالوا: إنهم بنات الله سبحانه، تعالى الله عن افترائهم {بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق} أي من العذاب {شَيْئًا} نظيره {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} [الحجر: 8]. يعني أنها لا تشفع لهم، وأن ظنهم لا ينقذهم من العذاب.
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} يعني القرآن، وقيل: الإيمان، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} قال الفرّاء: وذلك حين قالوا: إنهم بنات اللّه، تعالى اللّه عن افترائهم وازرى بهم بعد ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} اختلفوا في معنى {إِلاَّ} فقال قوم: هو استثناء صحيح، واللمم من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية: إلاّ ان يلم بالفاحشة ثم يتوب وتقع الوقعة ثم ينتهي، وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن وأبي صالح، ورواية عطاء عن ابن عباس قال: هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تغفر اللّهم تغفر جمّا، وأي عبد لك لا ألمّا».
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم: ما دون الشرك.
قال آخرون: هو استثناء منقطع مجازه: لكن اللمم، ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كانوا بالأمس يعملون معنا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه، وروى الوالبي عن ابن عباس، وقال بعضهم: هو صغار الذنوب مثل النظرة والغمزة والقُبلة، وهو من ألمّ بالشيء إذا لم يتعمق فيه ولم يلزمه، وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان، ورواية طاووس عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظّه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق أو يكذبه، فإنْ تقدّم بفرجه كان زانيًا وإلاّ فهو اللمم».
وقال ابن الزبير وعكرمة وقتادة والضحاك: هو ما بين الحدّين: حدّ الدنيا وعذاب الآخرة، وهي رواية العوفي والحكم بن عيينة عن ابن عباس، وقال الكلبي: اللمم على وجهين، كل ذنب لم يذكر عليه حدًّا في الدنيا ولا عذابًا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلمّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه، وقال مقاتل: اللمم ما بين الحدّين من الذنوب. نزلت في نبهان التمار وقد مضت القصة في سورة آل عمران، وقال عطاء بن أبي رياح: اللمم عباده النفس الحين بن الحين، وقال سعيد بن المسيب: هو ما لمّ على القلب، اي حظر، وقال محمد بن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شرّ فهو لمم.